غزّة في التاريخ | أرشيف

الجامع العمريّ في مدينة غزّة | مصطفى حسّونة، Getty.

 

المصدر: «الثقافة – مدحة عكاش».

الكاتب: فوزي علي رضا النحوي.

تاريخ النشر: 1 شباط (فبراير) 1979.

 


 

إنّ كلّ ما يُكتب عن فلسطين، قديمها وحديثها، إنّما يُكتب للأجيال الّتي وُلِدَت أثناء النكبة، أو في طريق الهجرة، وهي تعبر الطرق والجبال والوهاد، أو في سفن البحر الّتي كانت تنقل أبناء فلسطين من ميناء إلى ميناء في طريقها إلى الدول العربيّة المجاورة.

كتبت الكثير، ومنذ عام 1948، في كافّة الصحف السوريّة، لأجيالنا كي لا ننسى، كما كتب كثيرون غيري. وأقدّم الآن دراسة تاريخيّة موجزة عن مدينة الدماء والبطولة والفداء؛ غزّة. إنّي أكتب وتهزّني ذكريات فلسطين، بلادنا المباركة الّتي باركها الله إسراء ومعراجًا وقبلة وقيامة ومهدًا.

 

غزّة في التاريخ

تقع غزّة مباشرة بعد صحراء سيناء، وهي مركز طبيعيّ كمحطّة للوافدين من مصر إلى الشام، والمحطّة الأخيرة لكلّ آت من الشام متّجهًا نحو مصر. وكانت غزّة ممرًّا للغزاة، وقد تعرّضت إلى حروب دامية في مختلف العصور، حتّى وصفها نابليون بونابرت بأنّها: "مقدّمة جيش أفريقيا وباب آسيا".

أجمع علماء التاريخ أنّ غزّة عريقة القدم، بناها أجدادنا الكنعانيّون الّذين وفدوا إلى فلسطين والساحل الشاميّ في أوائل الألف الثالث قبل الميلاد. ويقول المؤرّخ المرحوم الأستاذ محمود العابدي في كتابه «جغرافيا فلسطين»: "غزّة مِنْ أقدم مدن فلسطين". وهي تبعد عن البحر 4 كيلومتر. وفي غزّة قصّة هلاك شمشون، قاضي العبرانيّين الّذي اشتُهِرَ بقوّته فنزعتها منه دليلة لمّا قصّت شعره، ودليلة هذه امرأة إسرائيليّة سلّمت شمشون إلى الفلسطينيّين، وعلى قبر شمشون جامع أبي العزم.

في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، أغارت قبائل من جزيرة كريث وغيرها من بحر إيجه، عُرِفَتْ باسم الفلسطينيّين، على الساحل الجنوبيّ واستوطنوا غزّة واختلطوا بأهلها. بعض المؤرّخين يرون أنّ المعينيّين (900 – 400 ق. م.) هم الّذين ابتنوا مدينة غزّة، أو أنّهم على الأقلّ ساعدوا على انفتحاها ونموّها اقتصاديًّا وعمرانيًّا. وبسبب ربح المعينيّين من وراء تجارتهم، نزل غزّة وما جاورها قسم كبير من الجاليات العربيّة. أمّا أنّ المعينيّين هم الّذين أسّسوا غزّة، فليس هناك ما يدلّ على ذلك؛ إذ أنّ المتّفق عليه أنّ غزّة تعود إلى زمن الكنعانيّين أوّلًا، ثمّ الفلسطينيّين.

أمّا بالنسبة إلى المعينيّين، فقد كانت قوافلهم التجاريّة الّتي تتعاطى التجارة مع الهند وتحصل على ما تحصل عليه من خيرات، ثمّ مع أفريقيا الشرقيّة وبلاد العرب من جنوب الجزيرة العربيّة برًّا إلى البتراء فغزّة، ومنها كانت السفن البحريّة تحمل اللؤلؤ والتوابل والطيب والبخور واللبان والذهب، إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسّط. وقد كان لتلك التجارة الأثر الكبير على ازدهار غزّة ونموّها وثراء أهلها، وذلك يدلّ على أهمّيّة موقع غزّة على الساحل بالرغم ممّا ذاقته من أهوال. وعلى كلّ، فإنّ التجارة العربيّة كانت قد عرفت غزّة كمركز تجاريّ هامّ. ولمّا أغار الفرس على غزّة وما حولها في القرن السادس قبل الميلاد، وجدوا العرب في غزّة، وكذلك الحال بالنسبة إلى الإسكندر المقدونيّ في عام 332 قبل الميلاد؛ فقد صادف مقاومة عنيفة حينما حاصر غزّة، ويقول بلوتارخ: "إنّ غزّة أعظم مدينة في برّ الشام لمّا استولى عليها الإسكندر".

 

غزّة في عهد الرومان والإغريق

كانت غزّة معقلًا من معاقل العلم؛ فقد عرفها اليونان والرومان أنّها من المدن الّتي تدرّس فيها الآداب اليونانيّة وثقافتهم؛ إذ كانت في القرون الأولى للميلاد تُعْنى بتدريس الفلسفة والبلاغة والفصاحة والخطابة، وقيل إنّه كان يقصدها طلّاب من اليونان للدراسة فيها، وأنّ بلاد فارس كانت باستمرار تستعير أساتذتها من معاهدها.

وفي زمن الرومان اشتُهِرَت غزّة بتقدّم صناعة الفخّار والحرير والخمور؛ فاشتهر الخمر الغزّيّ في الغرب والشرق. وكانت خمورها تصدّر إلى «سوق مجنة» قرب مكّة قبل الإسلام، فيشيد بذكرها الشعراء. وأمّا في الغرب فكانت خمور غزّة عامرة على موائد أغنياء فرنسا في القرون الأولى للميلاد.

 

غزّة مع الفتح العربيّ

زار غزّة عدد من الصحابة قبل الفتوحات العربيّة، ومنهم أبو سفيان وعمر ابن الخطّاب وعمرو بن العاص. وكانت الزيارة للتجّار مع تجّار قريش الّذين كانوا يتاجرون مع بلاد الشام في رحلات الصيف، ومنها غزّة الّتي أقام فيها الرومان الأسواق التجاريّة، والّتي عرفتها قريش في الجاهليّة وكانت تتفوّق في التعامل التجاريّ.

من الّذين زاروا غزّة للتجارة الجدّ الثاني للنبيّ محمّد، حيث توفّي هناك وأصبحت المدينة تُعْرَف بـ ’غزّة هاشم‘. كما زار غزّة عبد الله، والد النبيّ محمّد. وفي يوم الجمعة 4 شباط (فبراير) 634 م، فتح القائد العربيّ عمرو بن العاص غزّة بعد أن انتصر العرب في منطقتي الغمر في وادي عربة، وفي الدميثة شرقيّ دير البلح، وقد استمرّت تحت سلطة العرب حتّى الغزو الصليبيّ.

 

في عهد الصليبيّين

وقعت غزّة تحت سلطة الصليبيّين في رجب عام 502 ه – 1109 م، ولكنّ العرب استعادتها بعد معركة حطّين عام 583 ه – 1187 م، وقد استشهد إبّان تلك الحروب، الأمير شجاع الدين عثمان بن علكان. وفي غزّة حيّ يعرف بحيّ الشجاعيّة، ولربّما تعود تلك التسمية إلى الأمير المجاهد شجاع.

 

الظاهر بيبرس في غزّة

في عام 958 ه – 1258 م، سقطت بغداد على يد هولاكو، وقد استطاعت جيوشه التوسّع في البلاد العربيّة، حتّى وصلت إلى غزّة واحتلّتها عام 1260 م، وقد استعيدت في نفس العام على يد القائد الظاهر بيبرس، بعد أن هزم الجيش المغوليّ في معركة كانت بادرة أولى أيقظت الوطن العربيّ، ودفعت بروح الثقة والصمود أمام الجيش التتريّ الجرّار. وكانت المعركة تلك حافزًا قويًّا وتمهيدًا لمعركة عين جالوت، الّتي اندحر فيها التتر في نفس العام أيضًا.

لقد أصبحت غزّة في عهد المماليك من أهمّ مراكز البريد الّذي كان معاوية أوّل مَنْ أدخله في تنظيم دولته، وعمّمه عبد الملك بن مروان. وقد بنى في غزّة ناصر الدين خزندار خانًا ليكون دارًا للبريد، وكان صاحب البريد يحمل لوحًا كُتِبَ عليه: "لا إله إلّا الله" وآيات أخرى كريمة. وقد اهتمّ السلطان بيبرس في شؤون البريد ونظّمه، وكانت طريق الشام عامرة؛ ففي كلّ مركز بريد ما يحتاج إليه المسافر من زاد له وعلف لدابّته. وممّا يدلّ على انتشار الأمن آنذاك، أنّ المرأة كانت تسافر من القاهرة إلى دمشق بمفردها راكبة أو راجلة، لا تحمل زادًا ولا ماء ولا يرافقها حارس.

 

رجالات غزّة وعلماؤها

لقد أنجبت غزّة رجالًا من العلماء والشعراء والفقهاء والصالحين والوزراء، وفي مقدّمتهم الإمام الشافعيّ (150 – 204 ه)، الّذي كان خارق الذكاء، يحفظ ولا ينسى، كريم الأخلاق، يتّصل نسبه مع النبيّ محمّد في عبد مناف. وكان والده قد حضر إلى غزّة واتّخذها إقامة له وتوفّي فيها.

توفّي الإمام الشافعيّ في مصر عام 830 م، ودُفِنَ بالقرب من جبل المقطّم، وله مقام مشهور في القاهرة. وقد كان رحمه الله يحنّ إلى غزّة حينما يسافر إلى خارجها ومن شعره في ذلك: "وإنّي لمشتاق إلى أرض غزّة/ وإن خانني بعد التفرّق كتماني/ سقى الله أرضًا لو ظفرت بتربها/ كحلت به من شدّة الشوق أجفاني".

ومن شعراء غزّة إبراهيم بن عثمان الكلبيّ الأشهبيّ (441 – 542 ه)، ومن علمائها الفقهاء أحمد بن عبد الله العامريّ الغزّيّ (770 – 822 ه)، ويذكر التاريخ أنّه أوّل مَنِ استوطن دمشق من عائلة الغزّيّ المعروفة فيها الآن، وتُعْرَف هذه العائلة في غزّة حاليًّا باسم عائلة النخالة، وتُنْسَب إلى عامر بن لؤي من قريش.

ومن مواليدها أيضًا الملك المؤيّد أحمد ابن الملك الأشرف، من رجال القرن التاسع الهجريّ، وهو الثالث عشر من ملوك المماليك الشركسيّة. وشمس الدين أبو العون محمّد الغزّيّ الفاروقيّ شيخ الطريقة القادريّة بالمملكة الإسلاميّة، وهو من سلالة عمر ابن الخطّاب، وهو جدّ آل الخيري والتاجي، أو التاجيّ الفاروقيّ وأبو الهدى. والمعروف أنّ آل الخيري سكنوا الرملة والتاجي في يافا وأبو الهدى في عكّا. وممّن يُنْسَب إليها أحمد رضوان، حاكمها المتوفّي فيها عام 1015 ه، وقد تولّى إمارة الحجّ سنين عديدة، عُرِفَ بشجاعته ورجاحة عقله وبحبّه للعلم وتكريمه للعلماء وما زال بقيّة من أحفاده. ومن رجالها حسين باشا المكّيّ، من رجال القرن الثاني عشر الهجريّ، وقد عُهِدَ إليه بولاية الشام، وعائلة مكّي الغزّيّة هي ثاني العائلات الشاميّة الّتي حصلت على لقب باشا من آل عثمان.

ومن مواليد غزّة الذائع الصيت أحمد المؤقّت، المتوفّي عام 1171 ه، وقد نزح أجداده من المغرب في القرن التاسع الهجريّ، ونزلوا غزّة ومَنْ تبقّى منهم سكن القدس. وفي غزّة وُلِدَ الطبيب محمّد الريّس، وكان حاذقًا ذاع اسمه في سوريا ومصر وتوفّيّ عام 1130 ه، وغيرهم كثيرون.

 

غزّة في الحرب العالميّة الأولى

بعد معارك دامية بين الجيشين العثمانيّ والبريطانيّ، أمكن للإنجليز إجلاء غزّة من العثمانيّين في الساعة السابعة مساء يوم 7 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1917 م. وقد أصبحت غزّة مفرغة من السكّان والجنود الأتراك بعد أن سلّط الإنجليز مدافعهم على المدينة فتهدّمت. كان عدد سكّانها حتّى عام 1918 نحو 42000 نسمة، فأصبحوا 17500 نسمة، وهكذا تحوّلت المدينة إلى خراب، وأخذت الحياة تعود إليها تدريجيًّا، في حين لم يعمل الاستعمار البريطانيّ على إعادة إعمار المدينة ومصانعها ومعاملها.

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ المسيحيّين في غزّة أهدوا مسلميها قطعة أرض من حديقة كنيستهم ليقيموا عليها مسجدًا، وقد تأمّلت كثيرًا في تلك الصورة الّتي تمثّل واقعًا وطنيًّا صادقًا في الروح والعاطفة؛ مسجد وكنيسة داخل سور واحد، ولعلّه منظر فريد لا أتصوّر له ما يماثله في العالم.

 

أراضي غزّة وآثارها 

إنّ أراضي غزّة على غاية من الخصوبة والمياه العذبة، لها بساتينها الغنّاء النضرة، ومنطقة غزّة من أخصب أراضي فلسطين، من محاصيلها الموز والبرتقال والمشمش والتوت والزيتون والعنب، كما تنتج أراضيها الحبوب والخضار.

ومن آثار غزّة جامعها الكبير الّذي يُعْتَبَر من مساجد فلسطين الكبرى، جميل الشكل والهندسة، ومن حوله مدارس عديدة. وقد دكّت مدافع الإنجليز مئذنة المسجد وكثيرًا من الواجهات، فجدّدها «المجس الإسلاميّ الأعلى» عام 1945. وفي غزّة عدّة جوامع بُنِيَت في عصور المماليك والعثمانيّين.

 

قبل وبعد الاحتلال الصهيونيّ

أظهر شعب غزّة مواقف وطنيّة جريئة قبل احتلالها من قبل الصهاينة، وبعد الاحتلال الصهيونيّ ذاق شعب غزّة الأمرّين؛ فتعدّدت الضحايا وسُكِبَت الدماء وتحدّى الدخلاء العابثين بكلّ جرأة وشجاعة وبسالة وحماسة وعزّة وكرامة. وما زال شعبها ماضيًا في ثورته وجهاده بالرغم من قساوة الإرهاب وتعدّد السجناء من أبطال الفداء.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.